آراء وكتاب

الدكتور حسن إبراهيم يحيى يكتب الدين المعاملة

كتب: الدكتور حسن إبراهيم

عميقة تلك الكلمة المستوعبة لجنبات الحياة، وفيها تحديد دقيق لحقيقة الدين، وترشيد للسلوك الإنساني الذي يربط بين تصرفات الإنسان وانفعالاته والدين؛ ليستخلص لنفسه الوجه الأمثل في دنياه، ويسعد في أخراه، ويقوم بمهام استخلافه في الأرض كما ينبغي؛ فالدين جاء لينظم حياة الناس، ويربي فيهم الضمير المراقب لحركاتهم وسكناتهم، وينظم حركة العمران للنفس وللواقع المادي معًا، ومن ثَمَّ تتحقق المعاملة وفق ما يقتضيه الدين، وتستقيم به حركة الحياة.
وتتجلى معطيات الدين في تنظيم المعاملات مزجًا بين الأخلاق والعبادات والمعاملات في منظومة واحدة، لا تنفصل واحدة منها عن بقيَّة المكوِّنات؛ إذ إن الدين عقيدة صحيحة، وخلق فاضل، وعمل مثمر، وجماع هذه الأصول في قوله تعالى: « لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».
والناظر في واقعنا يجد ثَّمَّة انفصال بين الدين والمعاملة، الأمر الذي ترتب عليه ظهور كثير من المشكلات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة، ولعل السبب في ذلك تشويه المبادئ الإسلاميَّة التي ترتكز عليها المعاملات الحياتيَّة، أو النظرة إلى الدين كله على أنه دين البداوة، وأن مضامينه ومبادئه لم تعد صالحة لزماننا هذا، وربما كان السبب الخصومة مع القيم الإسلاميَّة التي تنظم حياة المجتمع، وتضمن استقراره، وكل هذه الأسباب تصادمت مع الفطرة الإنسانيَّة، وعطلت البناء الروحي الذي يستطيع الإنسان من خلاله الانسجام مع الكون بل مع بني جنسه، فيحزن لمصابهم، ويفرح لفرحهم، ويعمل لرفع آلامهم، وتحقيق آمالهم.
والمجتمع في واقعه مجموعة من الأفراد التي هي لبناته، ومنها يتكون، وهذه المجموعة تقوم بينها معاملات مختلفة بحكم افتقار بعضها إلى بعض، وهذه المعاملات لا بد لها من ضابط يضبط مبادلاتها، والضوابط التي يمكن أن تحقق مصالح الناس متنوعة، لكنها في مجملها عاجزة عن تحقيق الاستقرار المادي أو المعنوي، ومن ثَمَّ فالمجتمع في حاجة ماسة إلى ما ينظم معاملاته، وهنا تبرز مقولة: الدين المعاملة، ويُطْلَبُ منها الإدلاء بمضمونها أمام العثرات الاجتماعيَّة؛ لتقيل العثرة، وتحقق الأمن الاجتماعي، وتدفع الضر، وتجلب النفع.
وتتميز هذه المقولة عن بقية المبادئ التي يمكن أن يلتمس فيها المجتمع حلّا لمشكلاته الاجتماعيَّة في أنها ليست مرتبطة بباعث مادي، وإنما هي مرتبطة بباعث روحي، ولك أن تتخيل هذه الصورة التي رسمها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمجتمع على أساس ديني، وتقارن بينها وبين الصورة الاجتماعيَّة الماثلة بين يديك، فيقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:« مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» مع القراءة الواعية لكلمة “المؤمنين” وهي التي تمثل الدين في أعلى درجاته، والقراءة الدقيقة لمفردات التواد، والتراحم، والتعاطف، وهي التي تمثل المعاملة، كل ذلك مع التشبيه البليغ في قوله« مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، ثم تسأل نفسك هل توجد نظريَّة اجتماعيَّة تحقق هذا المعني، أو تقترب منه بهذا الشكل، دون أن ترتبط بباعث مادي بحت؟!
وعندما يتغلغل الدين في نفوس المجتمع يبحث عما يقربه من ربِّه، وهنا يأتي التوجيه النبوي ليمزج بين الدين والمعاملة بما يُحقق مصلحة المجتمع، ويُظهر أثر الدين في جنباته، فتُطعمُ البطون الجائعة، وتُسْتَر الأبدان العارية، وتُقْضى الديون، وتُدفع الكُرب، وتقضى الحوائج، كل ذلك ابتغاء القرب من الله الذي شرع الدين ووهب الحياة، فعَنْ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَئِنْ أَمْشِي مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ؛ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ»، وهذا هو الدين؛ عقيدة نقيَّة، ونفس سخيَّة، وأخلاق رضيَّة، وقوب وفيَّة، وما إلى ذلك مما تنتظمه هذه العبارة القويَّة؛ الدين العاملة.

زر الذهاب إلى الأعلى