الأخبار

د. حسن إبراهيم يكتب: الإنسان بين العقل والقلب

كتب: د. حسن إبراهيم

اعتنى الإسلام بتربية القلب اعتني به بتربية العقل، فكما أعطى العقل سلطانه العلمي ليدرك الواقع ويميز بين الحق والباطل والفاسد والصالح، أعطى القلب سلطانه العاطفي ليقود الإنسان إلى كريم الخصال، ونبيل الصفات، وليصونه من الثورة البدنية التي تسخِّر العقل لإشباع رغباتها، وجعل الوصول إلى مراتب الكمال، والحصول على أعلى درجات التكريم متعلق بالإنسان قلبا وعقلا، بوصفه ابن آدم، فقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[ الإسراء:70].
وهذا الإنسان الذي خلقه الله وكرَّمه أودع فيه عقلًا وقلبًا، وجعل ما ينتج عنهما ترجمة لشخصية الإنسان، وجعل لكلٍّ منهما مقوِّمات خاصة وسلطان خاص، فمقومات العقل العلوم والمعارف والتجارب والنظريات، ومهمته النظر والتمحيص واستقراء المناهج لإدراك الواقع، وسلطانه التمييز بين الحق والباطل، والفاسد والصالح، والضار والنافع، والجيد والرديء، ومقوِّمات القلب الشعور الفياض، والعواطف الكريمة، ومهمته البحث عن الجمال في كلِّ شيء، وتحقيق الكمال كغاية قصوى للحياة، وسلطانه الهداية والرشاد والانقياد للحق، والإنسان بين العقل ومقوِّماته والقلب وسلطانه مطالب بتحقيق حالة من التوازن تمكِّنه من الاستفادة منهما، وتقيله مغبة التدافع بينهما؛ ليصل إلى أعلى درجات التكريم.
لكن الإشكالية التي يقع فيها الإنسان منذ القدم أنه يهمل القلب ومقوِّماته الروحيَّة وسلطانه لصالح العقل، واستقراء أحوال الأمم السابقة التي هلكت وضرب الله بها المثل في القرآن الكريم يؤكِّد أنَّ سبب اضطرابها وهلاكها هو اختلال التوازن بين العقل والقلب، وسبب تعاسة حضارتنا المعاصرة أنها اعتنت بالعقل وأهملت القلب، فغذَّت العقل بالعلوم والمعارف والنظريَّات الحديثة فأصبح العقل قويم النظر في الأمور، مدركًا للواقع، لكن إنسان هذه الحضارة تنكب الصراط المستقيم، وكان من لوازم ذلك انطماس الشعور، وجفاف العاطفة، وغلبة القبح على الجمال، وفقدان الكمال المنشود، ووجود إنسان ذي قلب لاهٍ وصفه القرآن بقوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [ الأنبياء: 2-3].
ومن ثَمَّ أصبح كلُّ ما أنتجه العقل بعيدًا عن سلطان القلب مهايع للضياع، ومنازل للخراب والدمار؛ لأنَّ سموم المادية التي أفرزها العقل بعيدًا عن سلطان القلب وصلت بنا إلى حيوانيَّة وأدت إنسانيتنا، وإلى إباحيَّة قتلت فطرتنا، وإلى فجور عطَّل عفتنا، وإلى إلحادٍ أذهب بريق إيماننا، فكثير من الأعمال التي يقترفها إنسان الحضارة الماديَّة الصماء التي لا روح فيها، يقترفها بناء على موجبات عقليَّة لا علاقة لها بالقلب، وما أشبه الليلة بالبارحة، فقديمًا وأد البدوي بنته فلذة قلبه وهو راض عن هذا التصرف من الناحية العقليَّة، بمعزل عن سلطان القلب، وها هو إنسان اليوم يوشك أن يئد العالم كلَّه وهو راض عن هذا التصرف من الناحية العقليَّة!!
وكلُّ ما يؤرق العالم اليوم من مشكلات مرده إلى إهمال سلطان القلب، فعلى مستوى الأسرة ما يحدث من شقاق أسري امتلأت به ساحات المحاكم مرده إلى تعطيل سطان القلب على تصرفاتنا، وما يحدث من عقوق الأبناء لآبائهم مرده تربية عقلية سلَّحت الأبناء بكلِّ معطيات العصر الحديث لكنها أهملت تربيتهم القلبية، وكل ما يحدث على مستوى العالم سببه غياب التربية القلبية الباحثة عن العدل والجمال والرقي من منطلق ما أودع الله في القوب من رحمة ورأفة، وصارت القلوب مريضة مع كلِّ ما امتلكت من علوم ومعارف وتجارب، فصدَّت عن الحق، ورفضت قبوله، ووصفها ربُّها بقوله: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [ البقرة : 10].
وفي هذا السياق نستطع أن ندرك مواطن الجمال والحق وعوامل الاستقرار النفسي والمجتمعي، وذلك في ضوء قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[ آل عمران:159]، فاللين من إعمال القوب، والعفو عنهم بما استقر في القلب من حبهم، والاستغفار لهم بنا استقر في القلب من الشفقة عليهم، ومشاروتهم بما استقر في القلب من تقديرهم واحترامهم، والعزم أمر قلبي، والتوكل على الله ثمرة يقين استقر في القلب، ولمكانة القلب في حياة الإنسان جعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يرتبط به من خصال شريفة أساس استقرار المجتمع وتماسكه، فقال:« «مَثَلُ المؤمنين فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، فالود والرحمة والعطف أسس المجتمع القويم الرشيد، وهي معطيات قلبيَّة بحتة، ربما يتنكر لها العقل إذا انفرد بوضع تصور للبناء الاجتماعي؛ إذ إنه في حالة انفراده يقدِّم الأرقام والحسابات والمنافع والمصالح التي لا علاقة لها بمعني الود والرحمة والتعاطف، بل ربما تعارضت معطيات العقل مع هذه المعاني القلبيَّة، الأمر الذي يؤكِّد قوة سلطان القلب بجانب العقل.
ولخطورة القلب باعتباره شريك العقل في بناء شخصيَّة الإنسان السوي جعل القرآن الكريم مرض القلوب أعظم من عاهات الجوارح، فقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: ٤٦ ]، بل إنَّ القرآن الكريم جعل مناط الاعتبار واتخاذ العظة مرده إلى القلب، فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لِذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)[ ق:37]، وجعل النجاة يوم القيامة مرهونة بسلامة القلب فقال تعالى( وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ . يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:87- ٨٩].
فإذا كنا نبحث عن بناء شخصية سويَّة، ومجتمع مترابط متماسك، وتشييد حضارة راقية لا نكتوى بنارها، ولا تلهب ظهورنا سياطها فعلينا بالنظر في تربية القلوب، وتمكين سلطانها، وذلك لا يتحقق إلا من خلال غرس بذور الإيمان في القلوب، وصياغة مناهج علميَّة وتربويَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وثيقة الصلة بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: « أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

زر الذهاب إلى الأعلى