د. حسن عبد الحليم يكتب الأحوال الاجتماعية والثقافية بين المسلمين و الأخوة المسيحيين
لم يكن التعليم في صعيد مصر قاصرًا على التعليم الإسلامي، إنما شاركت الطوائف المسيحية بقدر من التعليم، فكانت لهم مكاتبهم الخاصة لتعليم أبنائهم.
وكانت هذه المكاتب شبه مشتركة إذ يمكن لأطفال المسلمين دخولها والدراسة بها، وذلك لشهرة الأقباط في الحساب جعلت بعض المسلمين يقبلون على إلحاق أولادهم بمكاتب النصارى لتعلمه.
وتركزت مراكز الثقافة القبطية في دور العبادة فكانت بالأديرة دور واسعة للعلم والأدب، وتبدأ هذه الدور بالكتاتيب أو المكاتب التي يتلقى فيها الطفل المسيحي العلوم الأولية، وتشمل مبادئ الديانة المسيحية وبعض القصص الدينية فضلًا عن مبادئ اللغة العربية وبعض العلوم التي برع فيها النصارى.
وكان يقوم بمهمة التدريس في هذه الدور الرهبان، ولم يكن التعليم قاصرًا على الذكور، بل كان يتناول الإناث، وقد عثر على مؤلفات مكتوبة بخط الراهبات يظهر فيها أنه كان يوجد بينهم إناث ممن كنّ يحسنّ القراءة والكتابة بالقبطية واليونانية.
وبلغ عدد الكنائس في الوجه القبلي ما يزيد على اثنتين وثمانين كنيسة لليعاقبة.
كما اشتهرت بعض مدن الصعيد بكثرة كنائسها مثل مدينة أسيوط، وكان بها خمس وسبعون كنيسة كما ذكر ياقوت الحموي.
أما في مدينة الفيوم فكان مجموع الكنائس المنتشرة فيها خمسًا وعشرين كنيسة بعضها عامر والآخر متهدم. ووجد في أخميم كثير من الكنائس التي كانت عامرة على أيام ابن جبير، ومن الكتاب الأقباط بأخميم فرج الله الأخميمي فقد نبغ في العلوم الدينية واللغوية والفلسفة.
ومن رجال الفكر المسيحي بولس البوشي ولد ببوش من الصعيد الأوسط وتلقى تعليمه في أحد أديرة مدينة الفيوم، وكيرلس ابن لقلق الذي تلقى تعليمه في دير بالفيوم مع زميله بولس البوشي.
فقد كانت بعض مدن الصعيد مكتظة بالنصارى منذ أقدم العصور وعندما فتحت مصر وانتشر الإسلام بين المصريين أسلم منهم عدد كبير وبعضهم بقي على دينه.
وقد كانت الكنائس والأديرة تتمتع بأوقاف كثيرة للإنفاق على مصالحها، فقد بلغت الأوقاف على هذه الكنائس والأديرة سنة 755 ه، ما يزيد على خمسة وعشرين ألف فدان.
وكان أهل الذمة من المسيحيين يتمتعون بقسط كبير من الحرية في صعيد مصر
في العصر المملوكي وكانوا يباشرون عقائدهم وحياتهم المدنية آمنين مطمئنين دون أن يلحقهم أذىً
أو يصيبهم مكروه ولذا نجد أن بعض القرى كان أكثر أهلها نصارى مثل قرية الخصوص بناحية أبنوب من أسيوط.
وقد تمتع أهل الذمة بحرياتهم الاجتماعية، فكان لهم مطلق الحرية في أداء شعائرهم وطقوسهم الدينية والاحتفال بأعيادهم ومواسمهم وكانت تربطهم بالمسلمين صلات ود قوية.
وشارك أهل الذمة من المسيحين اخوانهم المسلمين في جميع مناحي الحياة، فكانوا جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع يتأثرون مع المسلمين بالأحداث الجارية ويتأثرون بأحوال المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وتميزت العلاقة بينهم وبين المسلمين في الوجه القبلي زمن المماليك بروح الوفاق والوئام.
فلم يكن المسيحيون بعيدين عن الساحة الفكرية فقد اشتهر من بينهم عدد ممن تميزوا في الساحة الثقافية وكانت مؤلفاتهم تدور حول الاهتمامات ذات الطبيعة الدينية أو الكهنوتية.
وقد شارك الأقباط في النشاط التعليمي فأنشأوا المدارس وتولوا المناصب مثل القاضي شمس الدين شاكر القبطي، المعروف بابن البقري ت :775هـ، صاحب المدرسة البقرية بالقاهرة وكان معدودًا من رؤساء الأقباط.
ويبدو أنه كان هناك تعليم مزدوج بين المسلمين والأقباط في دراسة اللغة العربية واللغة القبطية في بعض مدارس الكنائس والأديرة. حيث يتم تدريس اللغة العربية بالإضافة إلى اللغة القبطية التي كان سكان بعض قرى الصعيد حريصين على استخدامها فيما بينهم.
أما في العصر العثماني فلم يختلف الأمر عما مضى زمن المماليك، فقد ترك العثمانيون الأمور على ما كانت عليه قبل قدومهم إلى مصر.
فقد اعتبر العثمانيون الطوائف الدينية والمذهبية جماعات قائمة بذاتها، فأعطوها حرية التصرف في شئونها الدينية والتعليمية حيث اعتبر التعليم من جملة الأمور المرتبطة بالأديان والمذاهب فخولت جميع الطوائف المسيحية حق تأسيس المدارس وإدارتها أيضًا فأخذت هذه الطوائف المختلفة تؤسس معاهد تعليمية خاصة بها وتدير هذه المعاهد كما يروق لها، وكانت هذه المدارس تسير على مناهج خاصة بها تختلف باختلاف أديان الجماعات ومذاهبها، وكثيرًا ما كانت تقتبس مناهجها من المدارس الأجنبية المؤسسة داخل البلاد العثمانية أو البلاد الأجنبية نفسها وكذلك حسب العلاقات الدينية أو المذهبية التي كانت تربط الجماعة بتلك البلاد الأجنبية.
وكان لطائفة الأقباط التعليم الخاص بهم، فكانت لهم مدارس تعلم أطفالهم مبادئ القراءة والكتابة العربية والتركية ومبادئ الدين المسيحي بالإضافة إلى مبادئ الحساب والجبر؛ لأنهم كانوا يشتغلون بالأعمال التي تتصل بالأمور الاقتصادية، وكان التعليم باللغة القبطية قاصرًا على الكتاب المقدس ولكن التعليم وشرح الكتاب المقدس كان يتم باللغة العربية.
وكانت هذه المدارس تابعة للكنائس والأديرة، ويتم التدريس بداخلها وغير منفصلة عنها، وكانت الكنائس منتشرة في صعيد مصر، أما الأديرة فكانت هي الأخرى كثيرة العدد. فكان في الفيوم وحدها ثلاثة عشر ديرًا، وجرت العادة أنه يطلق على بعض المسنين من النصارى “شيخ”.
ومن خلال العرض السابق يتبين أن الحكومتين المملوكية والعثمانية شجعت التعليم الذي شمل مختلف طوائف الشعب المصري، وقد كان التعليم شعبيًا يعتمد على الجهود الأهلية وكان تعليم الأقباط يسير جنبًا إلى جنب مع التعليم الإسلامي.
وقد أسهمت هذه الطوائف في نشر التعليم والنهوض به، في جو من الاستقرار والهدوء والبعد عن التطرف.
فالإسلام أوجب تعليم سائر الأمة وتنوير عقولها بالمعارف والعلوم، وقدم الناس بالكمال العقلي والنفسي، فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة لا بأي شيء آخر.
“حفظ الله مصر وشعبها وجيشها من كل سوء.. ووقاها شر الفتن و المؤامرات و ادام وحدتها ووحد كلمتها”.